سورة يوسف - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{فَلَمَّا سَمِعَتْ كْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}
{فَلَمَّا سَمِعَتْ كْرِهِنَّ} أي باغتيابهن وسوء مقالتهن، وتسمية ذلك مكرًا لشبهه له في الإخفاء، وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه وأطلعن أمرها، وقيل: إنهن قصدن بتلك المقالة إغضابها حتى تعرض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن شاهدته، والمكر على هذين القولين حقيقة {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس أو الأربع المذكورات، وروى ذلك عن وهب، والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها {وَأَعْتَدَتْ} أي هيأت {لَهُنَّ مُتَّكَئًا} أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد كما روى عن ابن عباس، وهو من الاتكاء الميل إلى أحد الشقين، وأصله موتكأ لأنه من توكأت فأبدلت الواو تاءًا وأدغمت في مثلها، وروى عن الحبر أيضًا أن المتكأ مجلس الطعام لأنهم كانوا يتكؤن له كعادة المترفين المكبرين، ولذلك نهى عنه، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكئًا، وقيل: أريد به نفس الطعام قال العتبي: يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا؛ ومن ذلك قول جميل:
فظللنا بنعمة واتكأنا *** وشربنا الحلال من قلله
وهو على هذا اسم مفعول أي متكئًا له أو مصدر أي اتكاء، وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازًا، وقيل: هو من باب الكناية، وعن مجاهد أنه الطعام يحز حزًا بالسكين واختلفوا في تعيينه، فقيل: كان لحمًا وكانوا لا ينهشون اللحم وإنما يأكلونه حزًا بالسكاكين، وقيل: كان أترجا. وموزًا. وبطيخًا، وقيل: الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج، وكأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئًا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه، وقرأ الزهري. وأبو جعفر. وشيبة متكى مشدد التاء من غير همز بوزن متقى وهو حينئذ إما أن يكون من الاتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت: توضيت، أو يكون مفتعلًا من أوكيت السقاء إذا شددته بالوكاء، والمعنى أعتدت لهن ما يشتد عليه بالاتكاء أو بالقطع بالسكين، وقرأ الأعرج متكأ على وزن مفعلًا من تكاء يتكأ إذا اتكأ، وقرأ الحسن. وابن هرمز متكأ بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم، ومنه قوله:
وأنت من الغوائل حين ترمى *** وعن ذم الرجال بمنتزاح
وقوله:
ينباع من ذفرى عضوب حسرة *** زيافة مثل الفنيق المكرم
وقرأ ابن عباس. وابن عمر. ومجاهد. وقتادة. وآخرون متكا بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء ذلك عن ابن هرمز أيضًا، وهو الأترج عند الأصمعي.
وجماعة والواحد متكة، وأنشد:
فأهدت متكة لبني أبيها *** تخب بها العثمثمة الوقاح
وقيل: هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين كالأترج. وغيره من الفواكه، وأنشد:
نشرب الاثم بالصواع جهارا *** ونرى المتك بيننا مستعارًا
وهو من متك الشيء عنى بتكه أي قطعه، وعن الخليل تفسير المتك مضموم الميم بالعسل، وعن أبي عمرو تفسيره بالشراب الخالص، وحكى الكسائي تثليث ميمه، وفسره بالفالوذج، وكذا حكى التثليث المفضل لكن فسره بالزماورد، وذكر أنه بالضم المائدة أو الخمر في لغة كندة، وبالفتح قرأ عبد الله. ومعاذ رضي الله تعالى عنهما، وفي الآية على سائر القراآت حذف أي فجئن وجلسن {وَءاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنَّ سِكّينًا}.
وقال بعض المحققين: لا يبعد أن تسم هذه الواو فصيحة، وإنما أعطت كل وحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن، وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهنّ بالحجة.
وقيل: غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبت عليه فيكون خائفًا من مكرها دائمًا فلعله يجيبها إلى مرادها، والسكين مذكر عند السجستاني قال: وسألت أبا زيد الأنصاري. والأصمعي. وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه، وعن الفراء أنه يذكر ويؤنث. وذلك حكى عن اللحياني. ويعقوب، ومنع بعضهم أن يقال: سكينة، وأنشد عن الكسائي ما يخالف ذلك وهو قوله:
الذئب سكينته في شدقه *** ثم قرابًا نصلها في حلقه
{وَقَالَتِ} ليوسف عليه السلام وهن مشغولات عالجة السكاكين وإعمالها فيما بأيدهن، والعطف بالواو را يشير إلى أن قوله: {اخرج عَلَيْهِنَّ} أي ابرز لهن لم يكن عقيب ترتيب أمورهنّ ليتم غرضها بهن.
والظاهر أنها لم تأمره بالخروج إلا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها، وقيل: أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام، وقد أضمرت مع ذلك ما أضمرت يحكى أنها ألبسته ثيابًا بيضًا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه، وإنما حذف على ما قيل: تحقيقًا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن، وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل. ونظير هذا آت كما مر آنفًا {أَكْبَرْنَهُ} أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة اليدر على سائر الكواكب.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر، وحكى أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس، وجاء عن الحسن أنه أعطى ثلث الحسن، وفي رواية عن أنس مرفوعًا أنه عليه السلام أعطى هو وأمه شطر الحسن وتقدم خبر أنه عليه اللاسم كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن، ومن ذلك قوله:
يأتي النساء على أطهارهن ولا *** يأتي النساء إذا أكبرن إكبارًا
وكأنه إنما سمي الحيض إكبارًا لكون البلوغ يعرف به فكأنه يدخل الصغار سن الكبر فيكون في الأصل كناية أو مجازًا، والهاء على هذا إما ضمير المصدر فكأنه قيل: أكبرن إكبارًا. وإما ضمير يوسف عليه السلام على أسقاط الجار أي حضن لأجله من شدّة شبقهن، والمرأة كما زعم الواحدي إذا اشتدّ شبقها حاضت ومن هنا أخذ المتنبي قوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع *** إذا لحت حاضت في الخدور العواتق
وقيل: إن الهاء للسكت، ورد بأنها لا تحرك ولا تثبت في الوصل ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وتحريكها تشبيهًا لها بالضمير كما في قوله:
واحر قلباه ممن قلبه شبم ***
ضعيف في العربية على تسليم صحته ضعيف في العربية واعترض في الكشف التخريجين الأولين فقال: إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف والصفات والصلات، وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف، وأما في مثل هذا فلا، والمصدر ليس من مجازه إذ ليس المقام للتأكيد، وزعم أن الوجه هو الأخير، وكل ما ذكره في حيز المنع كما لا يخفى.
وأنكر أبو عبيدة مجيء أكبرن عنى حضن، وقال: لا نعرف ذلك في اللغة، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر، ونقل مثل ذلك عن الطبري. وابن عطية. وغير واحد من المحققين، ورواية ذلك عن ابن عباس إنما أخرجها ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد، وهو وإن روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس لا يعول عليه فقد قالوا: إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم.
وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين، ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجًا وقبولًا، وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشأن {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بما ألم ما نالهن، وهذا كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض.
وفي الكشف إنه معنى مجازي على الأصح، والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات. وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أنه فسر التقطيع بالإبانة، والمعنى الأول أسرع تبادرًا إلى الذهن، وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه، ومن العجيب ما روى عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام، وأظن أن منشأ هذا محض استبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر؛ ولعمري لو عرض ما قاله على أدنى الأفهام لاستبعدته {وَقُلْنَ} تنزيهًا لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبًا من قدرته جل وعلا على مثل ذلك النصع البديع {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أصله حاشا الله بالألف كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفًا، وهو على ما قيل: حرف وضع للاستثناء والتنزيه معًا ثم نقل وجعل اسمًا عنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه، وكثيرًا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا: جلست من عن يمينه؟ فجعلوا عن اسمًا ولم يعربوه، وقالوا: غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاه كل ذلك مراعاة للأصل، واللام للبيان فهي متعلقة حذوف، ورد في البحر دعوى إفادته التنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة، ولا فرق بين قام القوم إلا زيدًا. وحاشا زيدًا، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسمًا إلا إذا نقل وسمى به وجعل علمًا، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب، ولذا جعله ابن الحاجب اسم فعل عنى برىء الله تعالى من السوء، ولعل دخول اللام كدخولها في {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل: إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج، نعم ذهب المبرد. وأبو علي. وابن عطية. وجماعة إلى أنه فعل ماض عنى جانب، وأصله من حاشية الشيء وحيه أي جانبه وناحيته، وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به لله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤى فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} بالتنوين، وهو في ذلك على حد: سقيًا لك، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه، وكذا بقراءة أبيّ. وعبد الله رضي الله تعالى عنهما حاشا الله بالإضافة كسبحان الله، وزعم الفارسي أن {حاشا} في ذلك حرف جر مرادًا به الاستثناء كما في قوله:
حاشا أبي ثوبان إن أبا *** ثوبان ليس ببكمة فدم
ورد بأنه لم يتقدمه هنا ما يستثنى منه، وجاء في رواية عن الحسن أنه قرأ حاش لله بسكون الشين وصلًا ووقفًا مع لام الجر في الاسم الجليل على أن الفتحة اتبعت الألف في الاسقاط لأنها كالعرض اللاحق لها، وضعفت هذه القراءة بأن فيها التقاء الساكنين على غير حده، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ حاش الإله وقرأ الأعمش حاشا لله بحذف الألف الأولى، هذا واستدل المبرد.
وابن جني. والكوفيون على حاش قد تكون فعلًا بالتصرف فيها بالحذف كما عملت في هذه القراآت، وبأنه قد جاء المضارع منها كما في قول النابغة:
ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه *** ولا أحاشى من الأقوام من أحد
ومقصودهم الرد على س وأكثر البصرية حيث أنكروا فعليتها، وقالوا: إنها حرف دائمًا نزلة إلا لكنها تجر المستنثى، وكأنه لم يبلغهم النصب بها كما في قوله: حاشا قريشًا فإن الله فضلهم ورا يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم: أما والله. وأم والله، نعم ردّ عليهم أيضًا بأنها تقه قبل حرف الجر، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفًا أصلًا بل هي فعل دائمًا ولا فاعل لها، والجر الوارد بعدها كما في:
حاشاي إني مسلم معذور ***
والبيت المار آنفًا بلام مقدرة، والحق أنها تكون فعلًا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبًا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام. أو المصدر المفهوم من الفعل، ولذا لم يثن. ولم يجمع. ولم يؤنث، وحرفا أخرى ويجر ما بعدها، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض، ولا تدخل عليها إلا كما إذا كانت فعلًا خلافًا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا جرت، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفًا للتنزيه، وتمام الكلام في محله {للَّهِ مَا هذا بَشَرًا} نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني، وقصرهن على الملكية بقولهن: {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} أي شري كثير المحاسن بناءًا على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد، وأنشدوا لبعض العرب:
فلست لأنسي ولكن لملأك *** تنزل من جو السماء يصوب
وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب، ومنه قوله:
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة *** حسنًا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن، ويعلم مما قرر أن الآية لا تقوم دليلًا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي. وأتباعه، وأيده الفخر ولا فخر له بما أيده، وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه السلام عما رمى به على أكم لوجه، وافتتحوا ذلك بحاشا لله على ما هو الشائع في مثل ذلك، ففي شرح التسهيل الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدأوا تبرئة الله سبحانه من السوء ثم يبرئون من أرادوا تبرئته على معنى أن الله تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يميمه فيكون آكد وأبلغ، والمنصور ما أشير إليه أولًا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق، نعم هذا الاستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى عن النسوة: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} [يوسف: 51] و{مَا} عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطقل النفي بناءًا على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي. والمستقبل، والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدًا على النصب في أشعارهم غير قوله:
وأنا النذير بحرة مسودة *** تصل الجيوش إليكم قوادها
أبناؤها متكنفون أباهم *** حنقوا الصدور وما هم أولادها
والزمخشري يسمى هذه اللغة: اللغة القدمى الحجازية، ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع، وعلى هذا جاء قوله:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب *** فأجاب ما قتل المحب حرام
وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا، وقرى الحسن. وأبو الحويرث الحنفي ما هذا بشرى بالباء الجارة، وكسر الشين على أن شرى كما قال صاحب اللوائح مصدر أقيم مقام المفعول به أي ما هذا شرى أي ليس ممن يشتري عنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك.
وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضًا إلا أنه روى عنه أنه مع ذلك كسرى اللام من ملك، وروى الكسرى ابن عطية عن الحسن. وأبي الحويرث أيضًا، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضًا {مُلْكُ} بكسر اللام فقال: لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشتري لئيم، وعلى التقديرين لا يقال: إن هذه القراءة مخالفة لمقتضى المقام، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه.


{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
{قَالَتْ فذلكن} الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة حسا يقتضيه الظاهر إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراب البشرية، والاقتصار على الملكية، أو بعنوان ما ذكر مع الاخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضًا، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية، أو الذي قطعتن أيدين بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي عيرتني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه، والموصول صفة اسم الاشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فهي وفيّ ما قلتن، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا، وقيل: أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل: رفعًا لمنزلته في الحسن واستبعادًا لمحله فيه، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله.
وقيل: إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرًا فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها، وإن لوحظ الثاني كان قريبًا، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد، واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد. وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام، وضمير {فيه} عائد إليه، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه.
{وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسه} وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها أي والله لقد راودته حسا قلتن وسمعتن {فَاسْتَعْصَمَ} قال ابن عطية: أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني. وفي الكشاف أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب اه. وفي البحر: والذي ذكره الصرفيون في {استعصم} أنه موافق لاعتصم، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستفعل فيه أيضًا موافقة لافتعل، والمعنى امتسك واتسع واجتمع، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر. فالمعنى فامتنع عما أرادت منه؛ وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة، قيل: وعنت بذلك فراره عليه السلام منها فإنه امتنع منها أولًا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار، وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادًا كما لا يخفى.
وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك. وقيل: إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومراودتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى. وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس، وليت السدي لو كان قد سد فاء عن قوله: فاستعصم بعد حل سراويله.
ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت {وَلَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ} أي الذي آمره به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى: فما: موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع أمر كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ***
ومفعول آمر الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقًا كما قيل، وإما محذوف لدلالة {يفعل} عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به. وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به، ويعتبر الحذف تدريجًا لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورًا ثل ما جرّ به الموصول لفظًا ومعنى ومتعلقًا، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبًا، وكذا يقال في أمثال ذلك. وقال ابن المنير في تفسيره: إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلا منصوبًا مفصولًا كأنه قيل: أمر يوسف إياه لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري غياه، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهار لجريان حكومتها عليه واقتضاءًا للامتثال لأمرها.
{لَيُسْجَنَنَّ} بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريًا على رسم الملوك. وجوز أن يكون إيهامًا لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل.
{وَلَيَكُونَا} بالمخففة {مِّنَ الصَّاغِرِينَ} أي الأذلاء المهانين، وهو من صغر كفرح، ومصدر صغر بفتحتين، وصغرًا بضم فسكون، وصغار بالفتح، وهذا في القدر، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم، ومصدره صغر كعنب، وجعل بعضهم الصغار مصدرًا لهذا أيضًا وكذا الصغربالتحريك، والمشهور الأول، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل: لتحققه، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق. وقيل: لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة، وقرأت فرقة بالتثقبل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف ك {نسفعًا} [العلق: 15] على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا ***
وذلك في الحقيقة لشبهها بالتنوين لفظًا لكونها نونًا ساكنة مفردة تلحق الآخر، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادٌ مسدّ الجوابين، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرًا عظيمًا في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه. قيل: ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في {ما جزاء من أراد بأهلك سواءًا} [يوسف: 25] إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هونم فروعه ومستتبعاته. وقيل: إن قولها {ليكونا من الصاغرين} إنما أتت به بدل قولها هناك: {عذاب أليم} [يوسف: 25] ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك، لكن يحتمل أنها أرادت بالذلوالعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط أو ما يكون به أو بغيره، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب وبالعذاب الأليم ما يكون به أو بغيره أو بالعكس، وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظمم ما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هناو أو هناك، ولعلها إنما بالغت في ذلك حضر من تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها، ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد، فيضيق عليه الحيل ويعيى به العللوينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر.


{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)}
{قَالَ} استئناف بياني كأن سائلًا يقول: فماذا صنع يوسف حينئذ؟ فقيل: قال مناجيًا لربه عز وجل: {رَبِّ السِّجْنُ} الذي وعدتني بالإلقاء فيه، وهو اسم للمحبس. وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي اسحق وابن هرمز ويعقوب {السجن} بفتح السين على أنه مصدر سجنه أي حبسه، وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده، وقرأ {رب} بالضم و{السجن} بكسر السين والجر على الإضافة: فرب: حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر. والمعنى على ما قيل: لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره {أَحَبُّ إلَيَّ} أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافدة إثرها راحات كثيرة أبدية {ممَّا يَدْعُونَني إلَيْه} من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم. وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن. والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفًا من الحبس، والاقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل. وقيل: اكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طمعها عن المساعدة خوفًا مما توعدته به لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناءًا على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن، ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى، وفيه منع ظاهر. وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزيّن له مطاوعتها، فقد روي أنهنّ قلن له: أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم، وروي أن كلًا منهنّ طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها، وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرًا تسأله الزيارة، فإسناد ذلك إليهنّ لأنهن أيضًا دعونه إلى أنفسهن صريحًا أو إشارة. وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال: {رب السجب أحب إليّ} إلخ أوحى الله تعالى إليه: يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت: العافية أحب إليَّ عوفيت، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر، فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلًاوهو يقول: «اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم: سألت الله تعالى البلاء فاسأله العافية».
{وَإلاَّ تَصْرِفْ} أي وإن لم تدفع {عَنِّي كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والفعة {أَصْبُ إلَيْهِنَّ} أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن واتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريًا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا انه عليه السلام يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السواء. كذا قرره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب وغيره: إنه فرار إلى الاعتزال وإشارة إلى جواب استدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى، وقد قرر ذلك الإمام بما قرره فليراجع وليتأمل.
وأصل {إلا} إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه، وقد أدغمت فيه النون باللام و{أصب} من صبا يصبو صبوًا وصبوة إذا مال إلى الهوى، ومنه الصبا للريح المخصوصة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط، والجملة الشرطية عطف على قوله: {السجن أحب} وجيء بالأولى اسمية دون الثانية لأن أحببته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب. وقرئ {أصب} من صبيت صبابة إذا عشقت، وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى، والفعل مضمن معنى الميل أيضًا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلًا إليهن {وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح، فالجهل عنى السفاهة ضد الحكمة لا عنى عدم العلم، ومن ذلك قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14